معركة في سرداب مظلم..

2019-03-18 00:50:07

معركة في سرداب مظلم..

 

فصل : محنة القلق
كتاب : الأحلام
 د / مصطفى محمود رحمه الله

 

معركة في سرداب مظلم:

 

الأرض التي نعيش عليها واسعة و الخير كثير و العمر طويل.. و مع ذلك فحياتنا سلسلة من المشاكل.. ما السبب ؟
"السبب أن كل هذا لا يعنينا "..
إن كل ما يعنينا "فقط " هو "رغبتنا "..
 و رغبتنا مثل النافذة الضيقة تطل دائما على ما يملكه الناس.. و تتشوف دائماً إلى أشياء ليست في حوزتنا.. و لا في إمكاننا.. 
"إن كل ما في أيدينا يفقد سحره و لا يسيل لعابنا إلا على أشياء لا نملكها "..
 إن رغبتنا هي التي تصنع المشكلة و تخلق تعارضا بين ما نريده و بين ما هو موجود.. 
 إنها هي التي تحفر الخندق الواسع بين الحلم و الحقيقة.. هي التي تلح على الواقع طالبة تغيره بواقع آخر في خيالنا.. 
و هي لا تفهم و لا تناقش.. و إنما تلح و تلح.. 
و لا تتعب و لا تطلب التعقل.. 
 والعقل أمام نيران الرغبة التي تحرقه لا يجد مفرا من مواجهة الواقع و تدبر الوسائل لتغييره و تكييفه ليصبح مرغوبا وهو يحتاج لوقت.. و   الرغبة تصرخ و تريد كل شيء في الحال.. و الواقع جامد و لا يطاوع التغيير بسرعة و الإمكانيات محدودة و الحرية محدودة.. و المكان و
الزمان و الناس و البيئة و الظروف قيود تضيف إلى كاهلنا أثقالا و تجعلنا قليلي الحيلة أمام رغباتنا.. 
 

إننا نصطدم كل لحظة بما نرغب و هذا هو سر الإشكال في الحياة.. 
 وهذا الصدام هو نواة القلق.. لأن معناه أن هناك شيئاً ما ينقصنا.. وأن هذا الشئ غير موجود ولا نستطيع إيجاده.. 
 وهذا يضعنا أمام واحد من حلين.. إما أن نتنازل عن رغباتنا فنحرم من شئ نحبه و هذه نهاية مؤلمة و إما أن نتنازل عن واقعنا فننتحر أو نجن.. وهذه نهاية أكثر إيلاماً.. 
 ومن هنا ينبت الخوف و التوتر و التناقض و الألم.. و من هنا ينبع الإشكال.. و من هنا تصبح حياتنا سلسلة من القضايا و سلسلة من المآزق. إن مبررات القلق موجودة عند كل إنسان و مع ذلك لسنا كلنا قلقين.. 


ما السبب.. ؟
 السبب أن عقولنا لها طريقة سحرية تعالج بها هذا الصدام.. هذه الطريقة أن تتكيف و تتلاءم و توفق بين رغباتنا و واقعنا.. و تقوم بالترضية و تهون من الخسائر بأنها ضرورية و لا بد منها.. و بهذا تتساقط المشاكل الواحدة بعد الأخرى ..
 إن الرجل الفقير قد يحلم بالسكن في فيلا و اقتناء عربية و الزواج من أميرة.. و لكنه مع هذا حينما يصطدم بالواقع و يحسب الحسبة كلها في عقله لا يجد غضاضة في التنازل عن هذه الطلبات و يكتفي بغرفة على السطح و جلباب واحد لا غيره.. لقد تكيف على حسب دخله.. 
 و نحن حينما نرفع درجة حرارة بيوتنا في الشتاء بأن نضع فيها مدفأة ، و حينما نخفض حرارة جسمنا في الصيف بأن نعرق.. نتكيف نحن أيضاً لننسجم مع الواقع مثل هذا الرجل.. 
و لكن التكيف أحياناً يتعطل.. 
 هناك لذات حادة عميقة و آلام مرهقة يقف أمامها العقل مكتوف اليدين.. يتعطل جهازه كله.. 
 الزوج الذي يحب زوجته و يعبدها ثم يفقدها في لحظة بأن يأخذها الموت من بين ذراعيه.. يواجه رغبة مستحيلة في بعثها.. 
 إنه يحبها و يريدها.. و هي في نفس الوقت ميته.. إنها ميته في الحقيقة.. حية في ذهنه و هو يحاول أن يتكيف مع الوضع الجديد بأن ينساها و يبدأ علاقات أخرى بنساء أخريات و يتزوج زواجا ثانيا.. و لكنه عاجز عن تجاوز محنته.. 


 إن اللذات القديمة تلتصق به كأنها الغراء ، فيتوقف عند وجه زوجته و يظل مسترخيا في أحضانها.. 
إنه يعيش في التجارب الجديدة و لكنه لا يمتزج بها.. 
 إنه منفصل بوجدانه عن كل الأحداث التي تتلاحق حوله مثل نقطة الزيت تعوم في الماء و لا تبتل.. 
 لقد تعطل جهاز التكييف في ذهنه فعجز عن قبول فكرة الموت.. و مضى يعيش في المستحيل كأنه ممكنا ..
 لقد سقطت زوجته في براثن الموت و سقط هو في براثن القلق.. و كلاهما أصبح ميتاً .. على طريقته.. و السر في تعطل جهاز التكييف هو تلك اللذة الحادة التي ألصقت عواطفه بالماضي.. كأنها صمغ.. فأفقدت عواطفه صفة الحرية و التجدد و التفاعل مع الحاضر.. فهو يتكلم و يتحرك في آلية و روحه غائبة تحوم حول شبح و هو يغذي هذا الشبح بتصوراته و انفعالاته فيكسوه باللحم و يبعث فيه النبض.. و لكن تصوراته مهما بلغت من العنف لا تبعث الميت حيا.. إنها على العكس تزيد حبه و تزيد عجزه في نفس الوقت.. فيزداد توترا و تمزقا و تناقضا.. و يتحول قلقه إلى ألم عضوي و إلى سلسله من الأعراض المرضية.. 



للقراءة المزيد من مؤلفات الدكتور مصطفى محمود:

رحلتي من الشك إلى اليقين  السؤال الحائر   لغز الحياة الكاتب د. مصطفى محمود

 

مثل هذا الرجل يذهب إلى الطبيب يشكو الصداع المزمن و القئ و خفقان القلب و الهبوط العام و الأرق و ضعف الشهية..فيكشف عليه الطبيب و يضع السماعة على صدره وقلبه ولا يجد شيئاً.. فيقول له : أنت موهوم! 
 و ما تشعر به لا أساس له من الصحة.. الطبيب مخطئ في حكمه.. و الأطباء مخطئون دائماً حين ينكرون المرض لأنه غير مصحوب بعرض جسماني.."إن الجسم و النفس شيء واحد "


 و نحن حينما نخاف ترتجف أجسادنا من الرأس إلى القدم ،و حينما نقلق نرتجف بنفس الطريقة.. و يرتجف هضمنا و تنفسنا و نبضنا و تفكيرنا.. و نقع ضحية أمراض غامضة لا تفسير لها في عالم الميكروبات.. 
 و الدكتور جيلسبي يروي قصة مريضة جاءته بالتهاب مزمن في ذراعها و كشف التحليل النفسي عن وجود صراع في عواطفها سببه كراهيتها لأمها.. 

 

إن أمها تعاملها كخادمة و تستغلها إلى أحقر الحدود و هي تكرهها في عقلها الباطن و إن كانت ترفض هذه الفكرة في عقلها الواعي لأنها متدينة..
 و تكون النتيجة أن تشعر شعوراً غامضا بالذنب و تحاول أن توقع على نفسها العقاب.. فتهرش في ذراعيها دون أن تدري حتى تجرحه.. فإذا التئم أخذت تهرش فيه من جديد و يؤدي تكرار الهرش إلى التهاب مزمن لا ينفع فيه دواء.. لأن الأكلان ليس أكلانا عضوية.. و لكنه أكلانا نفسياً.. 
 و مثل هذه المريضة لا يشفيها إلا عملية جراحية في عواطفها تخلصها من الكراهية.. و تحقق لها نوعا من التلاؤم و التكييف مع حياتها المنزلية. 


 "إن أخطر ما في القلق هو أنه مبارزة خفية غير منظورة يتبارز فيها خصوم لا نراهم في سرداب مظلم "


 إننا نرى صلصلة السلاح و نشعر بوخزات السيوف في قلوبنا و لكننا لا نرى في وضوح العواطف التي تتبارز في داخلنا..
 و قد يكون سبب القلق هو حرماننا من الحب في فترة الطفولة.. حينما كنا نتسلق على صدور آبائنا فيلقون بنا بعيداً في ضيق و ملل..
 و قد يبدأ الصراع من تلك السن البعيدة فنقع في محنة عاطفية بين حبنا لأنفسنا و حبنا للتدليل و الحنان.. و بين حبنا لآبائنا.. و يؤدي بنا الصراع إلى العزلة و الشعور بالنقص.
 

وقد نعيش بعد هذا و في ذهننا فكرة واحدة متسلطة عليه.. هي الانتقام من المجتمع كله 
إن القلق إحساس مؤلم.. و النفس تتحايل لتهرب منه بأي وسيلة.

 

 والجريمة والجنون والانتحار والانهيار العصبي سبل بائسة، تلجأ لها نفوسنا للتخلص من هذا الشد والجذب والتمزيق والتسلخ الذي يجري في داخلها.

 
 حينما ترى طفلاً يحطم لعبة و يفقأ عينها.. فهي غالباً ليست لعبة في نظره..و لا يحطمها بهذا الغل لأنها لعبة.. 
 وإنما هي رمز لشخص في ذهنه.. ربما لأبيه الذي ضربه و حرمه من حضن أمه.. و ربما لأخيه الذي تحبه العائلة و تفضله عليه.  "إن قتل اللعبة هو الحل الوسط الذي لجأت إليه الانفعالات المحبوسة لتعبر عن نفسها "..

 و نحن مثل هذا الطفل نعاني مئات من الانفعالات المحبوسة لا نستطيع أن نعلنها لأن الواقع لا يحتملها.. و بعض هذه الانفعالات مجهولة بالنسبة لنا.. مدفونه تحت سطح الوعي لا نحس بها ، و إنما نشعر بصراعها فقط
 نحس بحرارتها و نرى دخانها و نشم شياطها و هي تكوي أعصابنا ،و لكننا لا ندركها و لا نراها.. و هذا أخطر أنواع الانفعالات.. لأنها ميكروبات غير مرئية. 
 إنها كالأقدار تهبط علينا من داخلنا فلا نستطيع ردها و إنما كل ما نستطيعه أن نعاني و نتعذب و نتألم فقط.
 ' إن سر القلق هو الإحساس بالاستحالة.. قد يكون الاستحالة سببها الخوف أو عدم الثقة أو عدم الفهم أو مركب النقص.. و قد يكون المستحيل ممكناً في الحقيقة.

 

 

 ولكن هذا لا يهم.. فالمهم كيف ينظر الإنسان القلق لمشكلته من داخل ظروفه و إمكانياته ' إنه يحس بالرغبة و يدرك استحالتها و هو مع هذا لا يستطيع أن يسلم بالهزيمة و لا يستطيع أن يفوز برغبته و يحققها.. إن كل ما يستطيعه أن يعيش في حالة شد و جذب.. 
إنها حالة تشبه مسمار البرشام تدق صاحبها في الحائط و تقيد حريته و تعطل ذهنه و تشل طاقته و تربطه بلحظة حادة.. ربما كانت لحظة ألم أو لحظة لذة أو لحظة حب أو لحظة كراهية. 
وهو لا يستطيع الفكاك منها.. فإذا تجاوزها تجاوزها بجسده فقط.. 
 فهو يذهب في رحلة بالقطار من القاهرة إلى الشلال و يشاهد مئات القرى و البلاد و يعيش في بانوراما متجددة.. و لكن فكره يظل مع هذا واقفاً على محطة واحدة لا يبرحها "هي مشكلته ".
لقد فقد القدرة على التعامل بقلبه..و أصبح يتعامل مع الناس بلسانه.. و فقدت حياته جوهريتها..و أصبحت سطحية خالية من الحرارة والأصالة. وهو على سبيل الهرب من هذا الشلل قد يخلق حالات من الشعور لا أصل لها.. قد يبكي على حب جديد لا يشعر به.. و قد يضحك على نكته لا يفهمها و قد يتورط في زواج لا يرغبه و قد يلقي بنفسه في مغامرة لا هدف لها البتة.
وهو بهذه الوسيلة يزيد المشكلة تعقيدا لأنه يجعل الكذبة كذبتين.. و يصنع للسجن الذي ترسف فيه حريته سورا آخر.. و يضرب حوله نطاقا إضافيا من الأسلاك الشائكة.. و يمعن في الابتعاد عن نفسه و عن حقيقته.. 

كيــف يـكون الخـلاص من هذا التيـه اللعيـن الذى يفـوق ظـلامه ظـلام الباسـتيل كيـف نحـطـم أسـوار سـجوننـا و نخـرج إلى الهـواء الطلـق!

كيــف نتخلص من لَـذَّة آسِـرة لِـنَذوق من جـديد لَـذَّةً ثانيـة بنفـس العمـق و بنفـس الحـرارة!

كيــف نتخلـص من حـب فـاشـل لـنعيش حبـاً نـاجحـاً و نتمتـع به مِـلء قـلوبنـا!

كيــف نـهزم الخـوف و التـردد و نكسـب المـرونة التى نتكيـف بها مع الظـروف المتغيـرة حـولنـا!

كيــف نـدرك العوامـل المجهولـة التى تقـرر مصائرنـا ..و نكتشـف عواطفنـا من ينابيعها إلى مصـبها .. و نقيـم السـدالعـالى فى مجـراهـا و نتحـكم فى تـيارهـا فلا يجـرفنـا؟!

و فـى كـلمـة واحـدة .. كيـف نصـبح سـادة أنـفسـنـا ؟

 

 
39

تهتم الأكاديمية الدولية لتطوير الذات بتقديم التدريب والاستشارات النفسية والأسرية عبر الإنترنت، وتتميز بمنهج علمي متكامل في مجالات الصحة النفسية والإرشاد الأسري، وعلاج سلوكي للإدمان، والتنمية البشرية، وتطوير الذات واللايف كوتشينج. كما توفر الأكاديمية دبلومات متخصصة في إعداد المدربين المحترفين TOT وتحليل الشخصية ولغة الجسد وأنماط الشخصية وعلم قراءة الوجوه والفراسة. وتقدم الأكاديمية خدمات مجانية لجميع الفئات والأعمار في الوطن العربي. يمكن لدينا مزيد من المعلومات عن خدماتنا وبرامجنا، يمكنك الاطلاع على المزيد من المعلومات على صفحات مقالاتنا. اقرأ المزيد.