2019-01-10 22:59:57
فلما انقطعوا وقامت الحجة عليهم تحداهم بأن يأتوا بسورةٍ من مثله وأخبر أنهم لن يفعلوا فانقطعوا أيضاً وقامت الحجة عليهم، قال تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله إِنْ كُنْتُمْ صادقين * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ للكافرين} [البقرة: 23-24] .
وأَكَّد التحدي بقوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هاذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] .
دعا القرآن العرب إلى أن يأتوا بسورة من مثله ويشمل هذا التحدي قِصارَ السور كما يشمل طوالها فهو تَحدَّاهم بسورة الكوثر والإخلاص والمعوذتين والنصر ولإيلاف قريش أو أية سورة يختارونها،
► الثابت أن القرآن الكريم كان يأخذهم بروعة بيانه وأنهم لا يملكون أنفسهم عن سماعه ولذلك سعوا إلى أن يحولوا بين القرآن وأسماع الناس. سعوا إلى أن لا يصل إلى الأذن لأنهم يعلمون أن مجرد وصوله إلى السمع يُحْدِثُ في النفس دَويّاً هائلاً وهِزَّة عنيفة وقد حكى الله عنهم هذا الأسلوب فقال: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهاذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] .
وكان صناديد قريش وأعتاهم محاربةً للرسول وأشدهم كيداً له ونيلاً منه لا يملكون أنفسهم عن سماعه، فقد كان كل من أبي جهل وأبي سفيان والأخنس بن شريق يأخذ نفسه خِلْسةً لسماعه في الليل والرسول في بيته لا يعلم بمكانهم ولا يعلم أحد منهم بمكان صاحبه حتى إذا طلع الفجر تفرقوا حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا وقال بعضهم لبعض: لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتم في نفسه شيئاً، ثم انصرفوا. حتى إذا كنت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفروا وجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ثم انصرفوا. حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض: لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا. وقد أخبر الله نبيه بهذا الأمر فقال: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نجوى إِذْ يَقُولُ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} [الإسراء: 47] .
وما قول الوليد بن المغيرة بِسِرٍّ. فقد اجتمع إليه نفر من قريش ليُجمعوا على رأي واحد يصدرون عنه يقولونه للناس في الموسم فقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: مجنون. فكان يرى هذه الأقوال ويُفَنِّدها ثم قال:
"والله إنَّ لقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه ليعلو وما يُعلى عليه".
► لقد انتبه القدماء إلى أن السور التي بدأت بالحروف المفردة بنيت على ذلك الحرف، فإن الكلمات القافيّة ترددت في سورة (ق) كثيراً والكلمات الصاديّة ترردت في صروة (ص) كثيراً وهكذا.
جاء في (ملاك التأويل) في السور التي تبدأ بالأحرف المقطعة: "إن هذه السور إنما وقع في أول كل سورة منها ما كثر تَردادهُ فيما تركب من كَلِمها. ويوضحُ لك ما ذكرت أنك إذا نظرت في سورة منها بما يماثلها في عدد كلمها وحروفها وجدت الحرف المفتتحَ بها تلك السورة إفراداً وتركيباً أكثر عدداً في كلمها منها نظيرتها ومماثلتها في عدد كلمها وحروفها".
► واستندوا إلى الإحصاء، جاء في (ملاك التأويل) عن سبب بدء سورة (لقمان) بـ (ألم) وسرة يونس بـ (ألر) : "أنَّه تكرر في سورة يونس من الكلام الواقع فيها الراء مائتا كلمة وعشرون كلمة أو نحوها. وأقر السور إليها مما يليها بعدها من غير المفتتحة بالحروف المقطعة سورة النحل وهي أطول منها. والوارد فيها مما تركب على الراء من كَلِمها مائتا كلمة مع زيادتها في الطول عليها".
وانتبهوا إلى شر آخر وهو أن عدد هذه الحروف أربعة عشر حرفاً أي بمقدار نصف حروف المعجم ترددت في تسع وعشرين سورة على عدد حروف المعجم. ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشرة حرفاً وجدتها مشتملة على أنصاف أجناس الحروف. وبيان ذلك أن فيها من الحروف المهموسة نصفها، ومن المجهورة نصفها، ومن الشديدة نصفها، ومن الرخوة نصفها، ومن المطبقة نصفها، ومن المنفتحة نصفها، ومن المستعملة نصفها، ومن المنخفضة نصفها، ومن حروف القلقلة نصفها، وقد ذكر من هذه الأنصاف ما هو كثير الدروان في الكلام، فسبحان الذي دَقَّتْ في كل شيء حِكمتُه.
وليس هذا كل شيء في الإحصاء بل هناك شيء آخر وربما أشياء. أفلم تقرأ لإحصاءات الأخرى في كتاب الله العزيز لترى العجب؟
لقد تبين أن:
► سؤال قد يتبادر إلى الذهن : ولِمَ لم يعكس فيذكر اليوم ثلاثين مرة بقدر أيام الشهر و (الأيام) 365 مرة بقدر أيام السنة؟
•• الجواب أن العرب تستعمل الجمع تمييزاً لأقل العدد وهو ثلاثة إلى عشرة فتقول: ثلاثة رجال، وأربعة رجال، وعشرة رجال. فإن زاد على العشرة وصار كثرة جاءت بالمفرد فتقول: عشرون رجلاً. مائة رجل، وألف رجل. فالجمع يوقعونه تمييزاً للقلة والمفرد يقعونه تمييزاً للكثرة.
وكثيراً ما يوقعون المفرد للكثرة بخلاف الجمع من ذلك الوصف بالمفرد والوصف بالجمع.
فالوصف بالمفرد يدل على الكثرة، والوصف بالجمع يدل على القلة فقولك (أشجار مثمرات) يدل على أن عدد الشجرات قليل بخلاف ما لو قلت (أشجار مثمرة) فإنه يدل على أن الأشجار كثيرة.
ويوقعون ضمير المفرد للكثرة وضمير الجمع للقلة. ألا ترى أن قولك: "الرماح تَكسّرن" يعني أن الرماح قليلة وذلك لمجيء نون النسوة بخلاف قولك: "الرماح تكسَّرتْ" فإنها تعني أن الرماح كثيرة. والنون في الأصل للجمع والتاء للمفرد.
ألا ترى في قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة: 36] .
كيف لما قال: (إثنا عشر شهراً) قال: (منها) . لما قال: (أربعة) قال: (فيهن) فاستعمال المفرد (منها) للكثرة والجمع (فيهن) للقلة. وغير ذلك.
فهو جرى على سنن كلام العرب في التعبير. والقرآن أُنزل بلسان عربي مبين وغير ذلك وغيره. فأي إعجاز هذا أيها الناس! أي إعجاز هذا أيها العلماء! أي إعجاز هذا أيها المفتونون بالعلم!
ثم إن القرآن له خصوصيات في استعمال الألفاظ: فقد اختص كثيراً من الألفاظ باستعمالات خاصة به مما يدل على القصد الواضح في التعبير فمن ذلك أنه:
ومن ذلك ذِكْرُ المطر فإنك "لا تجد القرآن يلفظ به إلا في موضع الانتقام بخلاف الغيث الذي يذكره القرآن في الخير.
ومن ذلك ما اختص به القرآن الكريم في استعمال العيون والأعين. فلم يستعمل العيون إلا لعيون الماء. وقد وردت كلمة (العيون) في القرآن الكريم في عشرة مواطن كلها بمعنى عيون الماء من مثل قوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الحجر: 45] وقوله: {فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] .
ومن ذلك استعمال (وصى) و (أوصى) فكل ما ورد فيه من (وصّى) بالتشديد فهو في الدين والأمور المعنوية، وكل ما ورد من (أوصى) فهو في الأمور المادية.
وهي كما ترى كلها في الأمور المادية.
ومن ذلك قوله تعالى: (يشاقّ) و (يشاقق) وهما لغتان: الفَكُّ لغةُ الحجاز والإدغام لغة تميم، ولكن القرآن استعملهما استعمالاً خاصاً
ومع هذا الاستعمال الرياضي الإحصائي العجيب للألفاظ فالتعبير القرآني هو في قمة الأدب والفن.
فإنك إذا نظرت إلى أَيِّ ضَرْبٍ من ضروب التعبير فيه وجدته وحدة متكاملة ليس فيها نُبوٌّ ولا اختلاف.
فإذا نظرت إلى التوكيد مثلاً وجدته على تباعد مواطنه وتفرقها في القرآن وحدة فنية متكاملة متناسباً في كل موطن مع السياق الذي ورد فيه منسقاً معه ومنسقاً مع كل المواطن الأخرى التي ورد فيها التوكيد.
فالقرآن قد يؤكد بـ (إنّ) وحدها مثلاً، أو قد يؤكد باللام أو يجمع بينهما، ولو أنعمت النظر لوجدت أن كل موضع يقتضي التعبير الذي عبر به فلا يصح أن تزاد اللام في الموضع المنزوع منه ولا تحذف في موطن الذِّكْرِ أينما وردت في القرآن وكذلك (إنّ) ونحوها.
فهو يقول مثلاً: (إن الله شديد العقاب) مؤكداً بإن وحدها في مواطن عديدة من القرآن.
ويؤكد بإن واللام في مواضع أخرى متعددة.
ويحذف ويؤكد في تعبيرات أخرى تبلغ المئات وهو يراعي في كل ذلك الدقة في التعبير ووضع كل لفظ في مكانه حسبما يقتضيه السياق بحيث لا يصح وضع تعبير مُؤكَّد في مكان غير مؤكد، ولا ما أُكِّد بأكثر من مؤكد في موطن أُكد بمُؤكدٍ واحد.
وكذا الأمر في غير (إنّ) فهو يقول مثلاً: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين} [هود: 47] بلا توكيد.
ويقول مرة أخرى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] بتوكيد الجواب.
ويقول مرة ثالثة: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 149] بتوكيد الجواب وبذكر اللام الموطئة قبل الشرط، كل ذلك حسبما يقتضيه الموطن والسياق، ولا يصح البتة وضع آية من هذه الآيات في غير سياقها وموطنها كما سنبين ذاك.
► فلو نظرت إلى التوكيد في القرآن لوجدته لوحة فنية عالية متناسقة على سعة التوكيد واختلاف المؤكدات وتنوعها.
فهو قد يُقدِّمُ كلمةً في مكان ويُؤخِّرها في مكان. أو يقدم عبارة في مكان ويؤخرها في مكان فهو يقدم (السماء) على (الأرض) مرة، ومرة يقدم (الأرض) على السماء، ومرة يقدم (الإنس) على (الجن) ، ومرة يقدم (الجن) على (الإنس) . ومرة يقدم (الركوع) على (السجود) ومرة يقدم (السجود) على (الركوع) فهو مرة يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا وَاعْبُدُواْ رَبَّكُمْ} [الحج: 77] ومرة أخرى يقول: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] .
وهو قد يذكر كلمة أو عبارة في موطن لا يذكرها في موطن آخر يبدو شبيهاً به فهو يقول مثلاً في موطن: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 174] ويقول في موطن آخر: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران: 77] فيزيد عبارة (ولا ينظر إليهم) . وغير ذلك وغيره.
كل ذلك يضعه وضعاً فنياً في غاية الروعة والجمال.
ثم هو يجمع بين ضروب القول المختلفة ويُؤلِّفُ بينها في حشدٍ فني عجيب لا يملك العارف بشيء من أسرار التركيب إلا أن يسجد لصاحب هذا الكلام إجلالاً وخشوعاً {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] .
لقد دُرِسَ التعبيرُ القرآني دراساتٍ مستفيضة وأُولِيَ من النظر ما لم يَنَلْهُ نصٌّ آخر في الدنيا.
فقد دُرِسَ من حيث تصويره الفني فكان أجمل تصوير وأبرع لوحة فنية. ودرس من حيث نظمه وموسيقاه فكان أروع عقد منظوم وأعذب قطعة فنية موسيقية. وهل يشك أحد في فخامة نظمه وحلاوة موسيقاه وعذوبة جرسه وحسن اختيار ألفاظه وجمال وقع آياته؟!
ودُرسَ تناسبُ سورهِ سورةً سورة، وتناسب آياته آية آية، وتناسب فواتح السور وخواتمها، فكان قطعة فينة واحدة محكمة الربط فخمة النسج، وكان كما قال الفخر الرازي: إن القرآن كالسورة الواحدة لاتصال بعضه ببعض بل هي كالآية الواحدة.
ودرس من حيث إعجازه فكانت جوانب إعجازه لا تحصى. أَهُوَ في أسلوبه وتعبيره، أم هو في تشريعه وفقهه، أم في معالجته جوانب الحياة المختلفة على أكمل وجه وأبهى صورة، أم هو في إخباره عن الأمم الماضية والأقوام البائدة. أم هو في إخباره عما سيقع. أم هو فيما قرره من حقائق علمية وكونية يكتشف الناس على مدى الدهر قسما منها، أم هو فيما وضعه من قواعد وأصول التربية ومعرفته بأدواء القلوب والنفوس. أما هو فيما ذكره من سنن التاريخ والخلق أو فيما ذكره من أصول علم الاجتماع أو غير ذلك وغيره. أم هو في كل ذلك وأشياء أخرى فوق ذلك؟!
أهو كتاب لغة أم كتاب أدب أم كتاب تشريع أم كتاب اقتصاد أم كتاب تربية أم كتاب تاريخ أم كتاب اجتماع أم كتاب سياسة أم كتاب عقائد أم هو كل ذلك وفوق ذلك؟!
عجيب أمر هذا الكتاب!
يراه الأديبُ معجزاً ويراه اللغوي معجزاً، ويراه أرباب القانون والتشريع معجزاً، ويراه علماء الاقتصاد معجزاً، ويراه المربون معجزاً، ويراه علماء النفس والمَعْنيون بالدرسات النفيسة معجزاً، ويراه علماء الاجتماع معجزاً، ويراه المصلحون معجزاً، ويراه كل راسخٍ في علمه معجزاً.
لقد كشف لهم وهم يبحثون في وجوه إعجازه عن بحار ليس لها ساحل، وغاصوا في لُجَجٍ ليس لها قعر، وكُلٌّ عاد بلؤلؤةٍ كريمة أو عقد نظيم، وبقيت ثُمَّةَ خزائن تفوق الحصر لم يَلِجها الوالجون وكنوز لا يطيقها إحصاء، لم تمتد إليها الأيدي، تفنى الدنيا ولا تفنى، ويبلى كل جديد ولا تبلى. فيها من عجائب صنع الله ما لو اطَّلعتَ عليه لم تعرف كيف تصنع ولا سْتبَدَّ بكَ عَجَبٌ لا ينتهي وتمكن منك انبهار لا ينقضي. ومفتاحُ ذلك تَدَبُّرهُ والنظرُ فيه.
فامنحه شيئاً من التدبر والنظر يمنحك من أسراره ما لم يكن منك ببال. إنه يعطيك أضعاف ما تعطيه.
إن هذا الكتاب يمنحُ مَنْ نظر فيه وتدبره خزائن بغير حساب ويفتح الله عليه من ألطافه ما يَجِلُّ عن الوصف فلا تُضيِّع هذه الصفقة الرابحة وإلا فأنت والله مغبون.
أأدركتَ الآن سر قوله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] .
أمّا أنهم لو تدبروه لَفُتحت أقفال القلوب ولان ما كان عصيّاً من الأفئدة، وَلأُوقدت مصابيح عهدُها بالنور بعيد، وأشرقت دروب لم يسقط عليها فيما مضى نور، ولحيت نفوس ما عرفت قبل ذلك حياة.
ألم يُسَمِّهِ اللهُ نوراً فقال: {وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً} [النساء: 174] .
أولم يُسَمِّه الله روحاً فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان ولاكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ؟
فهو روح ونور - وهل بعد ذلك شيء! وهل قبله شيء!
ليت شعري هل يفقه الناس؟
ألا ليت الناس يفقهون.