2025-05-03 18:59:54
من الناحية النفسية، قد يكون المتحرش شخصًا يعاني من اضطرابات سلوكية أو مشكلات نفسية غير معالجة مثل النرجسية أو اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع. يشعر البعض بالحاجة إلى فرض السيطرة أو إثبات الذات بطريقة منحرفة، وقد يرجع ذلك إلى شعوره بالنقص أو الإحباط في جوانب أخرى من حياته. كما أن قلة الوعي والافتقار للتربية السليمة والاحترام المتبادل يمكن أن يؤديا إلى انحراف السلوك.
النرجسية: قد يتحرش الشخص النرجسي لتعزيز إحساسه بالقوة والسيطرة، أو لاعتقاده بأنه "يستحق" انتهاك حدود الآخرين.
اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع (السيكوباثية): هؤلاء قد لا يشعرون بالندم أو التعاطف مع الضحية، ويرون التحرش وسيلة للاستمتاع بإيذاء الآخرين أو السيطرة عليهم.
اضطرابات التعلق: بعض المتحرشين يعانون من صدمات قديمة في العلاقات، مما يجعلهم يعبرون عن حاجاتهم العاطفية أو الجنسية بطرق عدوانية.
الشعور بالنقص أو الدونية: قد يحاول البعض تعويض إحساسهم بالضعف أو الفشل في حياتهم عبر إهانة الآخرين أو السيطرة عليهم.
الإحباط والغضب المكبوت: قد يتحول الغضب من ظروف الحياة الصعبة (مثل البطالة، المشاكل الأسرية) إلى سلوك عدواني تجاه الآخرين.
الاضطرابات الجنسية: مثل الهيبرسكسواليتي (فرط الرغبة الجنسية) أو السادية، حيث يرتبط الإثارة الجنسية بإيذاء الطرف الآخر
التربية الخاطئة: النشأة في بيئة تهمش احترام المرأة أو تُقلل من قيمة الحدود الشخصية يمكن أن تُشكل سلوكًا منحرفًا.
التطبيع الاجتماعي: في بعض المجتمعات، يتم التسامح مع التحرش أو التبرير له تحت مسميات مثل "المزاح" أو "الانجذاب الطبيعي"، مما يعزز السلوك العدواني.
غياب العقوبات الرادعة: عندما لا تكون هناك عواقب قانونية أو اجتماعية، قد يشعر المتحرش بالتمكن.
بعض المتحرشين لا يدركون تأثير أفعالهم على الضحية بسبب انعدام التعاطف أو التفكير المشوه (مثل إلقاء اللوم على الضحية: "هي التي استفزتني").
آخرون قد يعانون من ضعف في السيطرة على الدوافع بسبب إدمان أو اضطرابات نفسية غير مُشخَّصة.
تلعب الثقافة دورًا خطيرًا عندما تصور المرأة ككائن جنسي أو تجعل من المظهر الخارجي مبررًا للتحرش. كثير من الرسائل الإعلامية والفنية تُكرّس النظرة النمطية للمرأة كـ "مُغري" أو "مُثير"، ما يؤدي إلى تطبيع التحرش أو التقليل من فداحته. غياب ثقافة احترام الجسد والخصوصية يعزز هذه الظاهرة، خاصة في المجتمعات التي تُحمّل الضحية جزءًا من المسؤولية بسبب لباسها أو تصرفاتها.
للثقافة دور محوري في تشكيل الوعي الفردي والسلوك الجمعي. بعض الثقافات تغذي الأفكار الذكورية المتسلطة، وتُقلل من مكانة المرأة، وتُربّي الأطفال على مفاهيم مغلوطة مثل أن "الرجل لا يُرد"، أو أن "المرأة مسؤولة عن إثارة الرجل بسلوكها أو مظهرها"، مما يشكل بيئة خصبة لنمو ظاهرة التحرش وتبريرها.
الثقافة والإعلام لهما تأثير عميق في تشكيل المفاهيم المجتمعية حول المرأة والجسد، وغالبًا ما يساهمان إما في تكريس التحرش أو في مكافحته. هنا بعض النقاط الأساسية حول هذا الدور الخطير:
النظرة النمطية للمرأة كـ "جسد": عندما تُختزل المرأة في الإغراء الجنسي (مثلًا عبر الإعلانات، الأفلام، الأغاني)، يُصبح التعامل معها كـ"شيء" وليس كإنسانة أمرًا مقبولًا اجتماعيًا.
الربط بين المظهر والاستحقاق الأخلاقي: عبارات مثل "هي كده عاوزة كده" أو "لبسها بيستفز" تُحوِّل الانتباه من الجاني إلى الضحية، وتفتح الباب أمام تبرير التحرش.
الترويج للصور النمطية: بعض الأعمال الفنية تُظهر المرأة كـ"غانية" أو "ضحية ضعيفة"، بينما تُصور الرجل كـ"صياد" أو "مسيطر"، مما يعزز اختلال القوة.
التحرش كـ"مزاح" أو "إعجاب": مشاهد التحرش في الأفلام والمسلسلات تُقدم أحيانًا على أنها "مواقف مضحكة" أو "حب رومانسي"، مما يُقلل من فداحة الفعل.
ثقافة العار: في بعض البيئات، يتم تحميل الفتاة أو المرأة وزر ما حدث لها ("لو كانت محتشمة ما حصلش ليها كده")، مما يزيد من صمتها وخوفها من الإبلاغ.
ازدواجية المعايير: يُطلب من الفتيات "التستر" بينما لا يُوجه للرجال أي توبيخ عن تعليقاتهم أو تحركاتهم غير اللائقة.
✔ إصلاح الخطاب الإعلامي:
تقديم نماذج إيجابية للمرأة كشخصية مستقلة، وليس كمجرد ديكور أو هدف جنسي.
تجنب الصور النمطية في الإعلانات والأفلام، وإبراز قصص تُحارب التحرش.
✔ التعليم والتربية الجذرية:
تعليم الأطفال منذ الصغر احترام الجسد والخصوصية، بغض النظر عن الجنس.
تفكيك فكرة أن "اللباس يبرر التحرش" عبر حوارات مدرسية ومجتمعية.
✔ تمكين الضحايا قانونيًا واجتماعيًا:
تشديد العقوبات على المتحرشين، وضمان قنوات آمنة للإبلاغ.
دعم حملات مثل #MeToo لنزع وصمة العار عن الضحايا.
✔ إشراك الرجال في التغيير:
الكثير من الرجال لا يتحرشون، لكن الصمت على ثقافة التحرش يجعلهم شركاء سلبيين. يجب تشجيعهم على رفض الخطاب المُشَيِّء للمرأة.
من المنظور الديني، جميع الأديان السماوية ترفض التحرش وتعتبره فعلًا مُشينًا يخالف الأخلاق والآداب العامة. في الإسلام، يقول الله تعالى: "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم..." (النور: 30)، ويحث على العفة واحترام كرامة الآخرين. إلا أن الابتعاد عن القيم الدينية، وسوء الفهم أو تطبيق النصوص الشرعية، وعدم الالتزام بالتربية الأخلاقية الدينية الصحيحة، قد يؤدي إلى انحدار السلوك العام وانتشار ظواهر مثل التحرش.
الأديان السماوية -وخاصة الإسلام- تُحرِّم التحرش وتؤكد على حرمة الجسد واحترام حقوق الآخرين وضرورة ضبط النفس، لكن سوء الفهم أو التطبيق الخاطئ للنصوص قد يُسهم في تشويه هذه التعاليم. لنناقش هذا الجانب بتعمق:
ضبط البصر والسلوك:
يقول الله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} (النور: 30).
الأمر هنا شامل: ليس فقط الحفاظ على العفة، بل أيضًا غض البصر عن ما حرم الله، مما يقطع الطريق على التحرش.
تحريم الاقتراب من الزنا والفواحش:
يقول تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} (الإسراء: 32).
التحرش هو "اقتراب من الزنا" لأنه انتهاك لحرمات الآخرين.
عقوبة التعرض للأعراض:
في الحديث: "كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه" (صحيح مسلم).
التحرش انتهاك صريح لعرض المسلم، وهو من الكبائر.
سوء الفهم الديني:
بعضهم يُسيء تفسير آيات مثل {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} (النور: 31) لتحميل المرأة مسؤولية منع التحرش، بينما الآية موجَّهة للمؤمنات كأمر تعبدي، وليست تبريرًا للاعتداء عليهن!
الإسلام يوجب على الرجل أولًا غض البصر (النور: 30)، قبل أن يذكر النساء في الآية التالية.
الانفصال بين القيم والممارسة:
المجتمعات التي ترفع شعارات الدين لكنها تهمل التربية الأخلاقية قد تنتج أفرادًا ينتهكون الحدود تحت تأثير الشهوة أو الثقافة الذكورية.
التسامح مع الانتهاكات:
بعض البيئات تتغاضى عن التحرش باعتباره "خطأ صغيرًا" أو "مزاحًا"، رغم أنه في الدين منكر لا يُستهان به.
✔ التأكيد على المسؤولية الفردية:
النبي ﷺ قال: "إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة..." (مسلم). حتى في أشد المواقف، يُطلب ضبط النفس!
✔ العدل في العقوبات:
في حالة القذف أو اللمس بدون حق، تطبق عقوبات رادعة مثل الحد أو التعزير.
✔ التربية على الحياء:
قال ﷺ: "الحياء لا يأتي إلا بخير" (متفق عليه). الحياء ليس ضعفًا، بل هو رادع عن الانحراف.
✔ عدم إلقاء اللوم على الضحية:
حتى في قصة الإفك، عندما اتُهمت عائشة رضي الله عنها زورًا، أنزل الله براءتها في القرآن (سورة النور). لم يُقل لها "لماذا خرجت؟"، بل دُحضت التهمة بشكل قاطع.
المسيحية: تحث على "لا تشتهِ امرأة قريبك" (الوصية العاشرة في الكتاب المقدس).
اليهودية: تحرم اللمس أو التعدي على الأعراض (كما في شريعة التوراة).
جميعها ترفض التحرش وتعتبره انتهاكًا للقيم الإلهية.
الأديان بريئة من أي ثقافة تُبرر التحرش، لكن المشكلة تكمن في:
الفهم الانتقائي للنصوص (التركيز على أوامر للنساء وإهمال أوامر للرجال).
التربية الدينية السطحية التي لا تُغرس تقوى القلب، بل تكتفي بالمظاهر.
التسامح المجتمعي مع الانتهاكات تحت مسميات خاطئة ("شهوة مشبعة"، "رجولة").
"ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيء" (الترمذي).
التحرش نقيض الأخلاق الدينية، ومحاربته تحتاج إلى توعية دينية صحيحة، وليس فقط نصوصًا تُقرأ دون تطبيق.
العلاج النفسي: خاصة للذين يعانون من اضطرابات الشخصية أو صعوبات في إدارة الغضب والرغبات.
التوعية المجتمعية: بضرورة احترام الحدود الشخصية والمساواة بين الجنسين.
تشديد العقوبات القانونية: لردع السلوكيات العدوانية.
تمكين الضحايا: عبر دعمهم نفسيًا وقانونيًا لكسر حاجز الصمت.
الخاتمة:
فهم الأسباب النفسية والاجتماعية والثقافية والدينية لظاهرة التحرش الجنسي هو خطوة أساسية نحو معالجة هذه الظاهرة المؤلمة التي تهدد أمن الأفراد وسلامة المجتمعات. فالتحرش لا ينشأ من فراغ، بل هو نتاج تراكمي لعوامل متعددة تتداخل وتؤثر في سلوك الفرد. ومن هنا، فإن مواجهته تتطلب وعيًا جماعيًا وتعاونًا بين المؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية والمجتمعية، إلى جانب دور الأسرة في التربية، والدولة في سنّ القوانين وتطبيقها. التغيير يبدأ من الفهم، والفهم يبدأ من طرح الأسئلة الصحيحة، والاعتراف بأن الصمت عن التحرش جريمة أخرى. لنصنع بيئة تحترم الإنسان، وتحمي الكرامة، وتضع حدًا لكل أشكال الانتهاك.